سورة الفرقان - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


يقول الحق جل جلاله: {وإِذا رَأَوْكَ} أي: مشركو مكة {إِن}؛ ما {يتخذونَك إلا هُزُواً} أي: مهزوءاً بك، أو محل هزء، حال كونهم قائلين: {أهذا الذي بعثَ الله رسولاً}، ورسولاً، حال من العائد المحذوف، أي: هذا الذي بعثه الله رسولاً، والإشارة؛ للاستحقار في اعتقادهم وتسليمهم البعث والرسالة، مع كونهم في غاية الإنكار لهما؛ على طريق الاستهزاء، وإلا لقالوا: أبعث الله هذا رسولاً.
{إن كاد لَيُضلُّنا عن آلهتنا} أي ليصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً، والعدول إلى الإضلال؛ لغاية ضلالتهم بادعاء أن عبادتها طريق سَوي. {لولا أن صبرنا عليها} لصرفنا عنها، وهو دليل على مجاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وإظهار المعجزات لهم، حتى شارفوا أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم وتقليدهم. قال تعالى: {وسوف يعلمون حين يَرَوْن العذابَ} الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم، {من أضلُّ سبيلاً}، وأخطأ طريقاً. وفيه ما لا يخفى من الوعيد والتنبيه على أنه تعالى يُمهل ولا يهمل.
{أرأيتَ من اتخذ إلهَهُ هَواهُ} أي: أطاع هواه فيما يذر ويفعل، فصار معبوده هواه، يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا الذي لا يرى معبوده إلا هواه، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى وتهديه إليها؟ يُروى أن الواحد من أهل الجاهلية كان يعبد الحجر، فإذا مر بحجر أحسن منه تركه وَعَبَد الثاني. وقال الحسن: هو في كل متبع هواه. {أفأنت تكون عليه وكيلاً}؛ حفيظاً تحفظه عن متابعة هواه وعبادة ما يهواه. والفاء؛ لترتيب الإنكار على ما قبله، كأنه قيل: أَبَعْدَمَا شاهدت من غلوه في طاعة الهوى، وعتوه عن اتباع الهدى، تقهره على الإيمان، شاء أو أبى، وإنما عليك التبليغ فقط.
{أم تَحْسَبُ أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون}، {أم}: منقطعة، بمعنى بل، أي: بل أتظن أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات حق السماع، أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ والأنكال؟ {إنْ هم كالأنعام} أي: ما هم، في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات، وانتفاء التأثير بما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات، إلاّ كالبهائم، التي هي غاية في الغفلة، ومَثل في الضلالة، {بل هم أضلُّ سبيلاً}؛ لأن البهائم تنقاد لصاحبها الذي يعلفها ويتعاهدها وتعرف من يُحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وتأوي إلى معاطنها، وهؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، الذي هو أعدى عدوهم ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أقبح المضار والمعاطب ولا يهتدون الحق الذي هو الشرع الهني، والمورد العذب الروي، ولأنها، إن تعتقد حقاً مستتبعاً لاكتساب الخير، لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقتراب الشر، بخلاف هؤلاء؛ حيث مهَّدوا قواعد الباطل، وفرعوا أحكام الشرور، ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة عليها، لا تتعدى إلى أحد، وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفساد، وصد الناس عن سنَن السداد، وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال، لعدم القوى العقلية، فلا تقصير من قبلها، ولا ذم، وهؤلاء متمكنون من القوى العقلية مضيعون الفطرة الأصلية، مستحقون بذلك أعظم العقاب، وأشد النكال. اهـ. وأصله للبيضاوي.
الإشارة: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره من أعظم ما يُقرب إلى الله، ويوصل إلى رضوان الله، ويدخل العبد على مولاه؛ لأنه باب الله الأعظم، والواسطة الكبرى بين الله وبين عباده فمن عظَّمه صلى الله عليه وسلم وبجّله وخدمه أتم الخدمة، أدخله الحضرة، على التوقير والتعظيم والهيبة والإجلال. ومن حاد عن متابعتة فقد أتى البيت من غير بابه؛ كمن دخل حضرة الملك بالتسور، فيستحق القتل والطرد والبُعد. وإدخاله على الله: دلالته على من يعرفه بالله، وقد يوصله بلا واسطة، لكنه نادر. ومن أهمل هذا الجانب واستصغره طرده الله وأبعده، وانسحب عليه قوله: {وإِذا رأوك إِن يتخذونك إلا هزوا} وكا ممن اتخذ إلهه هواه، وكان كالبهائم، أو أضل؛ لأن من اتبع الواسطة كان هواه تابعاً لما جاء من عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُون هَواه تَبِعاً لما جئتُ به» وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {ألم تَر} يامحمد {إلى رَبّكَ} أي: ألم تنظر إلى بديع صنع ربك ودلائل قدرته وتوحيده. والتعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-، لتشريفه وتبجيله، وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار قدرته ورحمته، {كيف مَدَّ الظِّلَّ} أي: بسطه حتى عمَّ الأرض، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس، في قول الجمهور؛ لأنه ظل ممدود، لا شمس معه ولا ظلمة، فهو شبيه بظل الجنة. وقيل: مد ظل الأشياء الشاخصة أول النهار؛ من شجر، أو مدر، أو إنسان، ثم قبضها وردها إلى المشرق. {ولو شاء لجعله ساكناً} أي: دائماً لا يزول ولا تُذهبه الشمس، أو: لا ينتقص بسيرها. {ثم جعلنا الشمسَ عليه} أي: على الظل {دليلاً}، لأنه بالشمس يُعرف الظل، فلولا طلوعها وظهورها ما عرف الظل، ولا ظهر له أثر، فالأشياء تُعرف بأضدادها.
{ثم قبضناه} أي: أخذنا ذلك الظل الممدود {إلينا}؛ إلى حيث إرادتنا {قَبْضاً يسيراً} أي: على مهل قليلاً قليلاً، حسب ارتفاع دليله، على حسب مصالح المخلوقات ومرافقها.
{وهو الذي جعلَ لكم الليلَ لباساً} أي: جعل الظلام الساتر كاللباس {والنوم سباتاً} أي: راحة لأبدانكم، وقطعاً لأعمالكم. والسبت: القطع، والنائم مسبوت؛ لأنه انقطع عمله وحركته، وقيل السبات: الموت، والميت مسبوت؛ لأنه مقطوع الحياة، كقوله: {وَهُوَ الذى يَتَوَفَّاكُم باليل} [الأنعام: 60]. ويعضده ذكر النشور في مقابلته بقوله: {وجعل النهار نُشُوراً} أي: ذا نشور، أي: انبعاث من النوم، كنشور الميت، أو: ينشر فيه الخلق للمعاش.
وهذه الآية، مع دلالتها على قدرته تعالى، فيها إظهار لنعمته تعالى؛ لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية، وفي النوم واليقظة- المشبهين بالموت والبعث- عبرة للمعتبرين. قال لقمان لابنه: كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
{وهو الذي أرسل الرياحَ}، وعن المكي بالإفراد، {نشراً}: جمع نشور، أي: أرسلها للسحاب حتى تسوقها إلى حيث أراد تعالى أن تمطر، {بين يدي رحمته} أي: أرسلها قدام المطر، لأنه ريح، ثم سحاب، ثم مطر. وقرأ عاصم الباء، أي: مبشرات بالمطر. {وأنزلنا من السماء ماءً طَهُوراً} أي: مطهراً بالغاً في التطهير، كقوله: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [الأنفال: 11] وهو اسم لما يتطهر به، كالوضوء والوقود، لِمَا يتوضأ به ويوقد به. وقيل: طهور في نفسه، مبالغة في الطاهرية، فالطهور في العربية يكون صفة، كما تقول: ماء طهور، واسماً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «التراب طهور، والمؤمن طهور» وقد يكون مَصْدَراً بمعنى الطهارة، كقولك: تطهرت طهوراً حسناً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بطهور» ووصْفُهُ تعالى الماءَ بذلك؛ ليكون أبلغ في النعمة، فإن الماء الطهور أنفع وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته، أي: أنزلناه كذلك.
{لنُحيي به} أي: بالمطر الطهور {بلدةً ميتاً} بالجدب والقحط، فحييت بالنبات والعشب. والتذكير؛ لأن البلدة بمعنى البلد، والمراد به: القطعة من الأرض عامرة أو غامرة. {ونُسْقِيَهُ} أي: ذلك الماء الطهور، عند جريانه في الأودية، أو اجتماعه في الآبار والحياض، {مما خلقنا أنعاماً وأَنَاسِيَّ كثيراً} أي: نسقي ذلك بهائم وناساً كثيراً. والأناسي: جمع أُنْسِيّ، ككرسي وكراسي. وقيل: جمع إنسان، وأصله: أناسين، وأبدلت النون ياءً، وأدغمت التي قبلها فيها. وقدَّم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي؛ لأن حياتها سبب لحياتهما. وتخصيص الأنعام من بين سائر الحيوان؛ لأن عامة منافع الإنسان متعلقة بها.
{ولقد صرَّفناه} أي: هذا القول، الذي هو إنشاء السحاب وإنزال المطر، على الوجه الذي مرّ من الغايات الجميلة، في القرآن وغيره من الكتب السماوية، أو: صرفنا المطر عاماً بعد عام وفي بلدة دون أخرى. أو صرفناه بينهم وابلاً، وطَلاًّ، ورذاذاً وديمة. وقيل: التصريف راجع إلى الريح. وقيل: إلى القرآن المتقدم في قوله: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن} [الفرقان: 32] ويعضده: {وَجَاهِدْهُم بِهِ} [الفرقان: 52]. وقوله: {بينهم} أي: بين الناس جميعاً متقدمين ومتأخرين، {ليذَّكَّرُوا}؛ ليتفكروا ويعرفوا قدر النعمة فيه، أو: ليعرفوا بذلك كمال قدرته وسعة رحمته، {فأبَى أكثرُ الناس} ممن سلف وخلف {إلا كفوراً} أي: جُحُداً لهذه النعمة وقلة اكْتِرَاثٍ بها، وربما نسبوها إلى غير خالقها، فيقولون: مُطرنا بنَوْء كذا.
وفي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ، فَأَما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْل الله ورَحْمَتهِ؛ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بالكَواكِب. وأما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فهو كافِرُ بِي، مُؤْمِنٌ بالكَواكِبِ» فمن نسب الأمطار إلى الأنواء، وجَحَد أن تكون هي والأنواء من خلق الله، فقد كفر، ومن اعتقد أن الله خالقها، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها، لم يكفر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس سَنَةٌ بأمطر من الأخرى، ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق، فجعلها في سماء الدنيا، في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم. ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» والله تعالى أعلم.
الإشارة: الكون كله، من جهة حسه الظاهر، ظل آفل، وضباب حائل، لا وجود له من ذاته، وإنما الوجود للمعاني القديمة الأزلية. فنسبة الكائنات، من بحر المعاني الأزلية، كنسبة ظلال الأشجار في البحار. فظلال الأشجار في البحار لا تمنع السفن من التسيار فكذلك ظلال الكائنات لا تمنع سفن الأفكار من الخوض في بحار المعاني الأزلية الجبروتية، بل تخرقها، وتخوض في بحار الأحدية الجبروتية، الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، والعلوية والسفلية، ولا يحجبها عن الله ظل شيء من الكائنات، وإليه الإشارة قوله: ألم تر، أيها العارف، إلى ربك كيف مد الظل، أي: مد ظل الكائنات؛ ليعرف بها كنز ربوبيته وبطون غيبه، ثم يرفع ذلك الظل عن عين البصيرة، التي أراد فتحها، فتشاهد بطون الأزل وغيب الغيب، وتصير عارفة بالله.
ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي: على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي: ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله؛ قياماً برسم الحكمة، وأداءاً لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي: ستراً ورداء من الهفوات؛ لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم- أي: الزوال- سُباتاً، أي: راحة من كد التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل؛ لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحكم: (ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً).
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي: معرفته؛ إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي: روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى: {ولقد صرفناه بينهم}؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
ثم إن هذا الماء إنما يسقى على أيدي الوسائط. وكان القياس تعددهم كتعدد سحابات الأمطار بتعدد الأقطار، لكن خُولف ذلك في حق نبينا صلى الله عليه وسلم؛ تشريفاً لقدره، وتعظيماً لأمره.


يقول الحق جل جلاله: {ولو شئنا لبَعَثْنَا في كل قريةٍ نذيراً} أي: رسولاً يُنذر أهلها، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر، فيخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نشأ ذلك؛ فحملناك ثقل نذارة جميع القرى، حسبما نطق به قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1]؛ لتستوجب بذلك الدرجة القصوى، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء، {فلا تُطع الكافرين} فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. وكما آثرْتُك على جميع الأنبياء فآثر رضاي على جميع الأهواء، وكأنه نهى للرسول صلى الله عليه وسلم عن المداراة معهم، والتقصير في الدعوة؛ لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق.
قال القشيري: {فلا تُطع الكافرين} أي: كُنْ قائماً بحقِّنا، من غير أن يكون منك جنوحٌ إلى غيرنا، أو مبالاةٌ بسوانا، فإنا نَعْصِمُكَ بكل وجهٍ، ولا نرفع عنكَ ظِلَّ عنايتنا بحالٍ. اهـ.
{وجاهِدْهُمْ به} أي: بالقرآن؛ بأن تقرأ عليهم ما فيه من الزواجر والقوارع والمواعظ، وذكر أحوال الأمم الهالكة، {جهاداً كبيراً}؛ عظيماً موقعه عند الله؛ لما يتحمل فيه من المشاق، فإن دعوة كُلِّ العالمين، على الوجه المذكور، جهاد كبير، أو: {جاهدهم به}؛ بالشدة والعنف؛ من غير مداراة ولا ملاينة، فَكِبَرُ الجهادِ هو ملابسته بالشدة والعنف، كقوله: {جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإنذار والوعظ بالمقال مع الهمة والحال عزيز الوجود، فقلَّ أن يجتمع منهم، في العصر الواحد، ثلاثة أو أربعة في الإقليم الكبير؛ لأن الله تعالى لم يشأ ذلك بحكمته، قال تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً}، وكلما قَلَّ عددهم، وعظُم الانتفاع بهم، عظُم قدرهم، فينبغي للمذكِّر أن يُذكِّر كلاًّ بما يليق به، فأهل العصيان ينبغي له أن يشدد في الإنذار، ولا يداريهم ولا يداهنهم. وأهل الطاعة ينبغي له أن يُبشِّرهم ويسهل الأمر عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّرُوا»، فيحتاج المذكِّر إلى فطنة وفراسة، حتى يعطي كل واحد ما يليق به، ويخاطب كل واحد بما يطيقه. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7